فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 601].
فيجوز في {ما} أن تكون مفعولًا بها، وأن تكون واقعةً موقع المصدر، ويجوز في {مِنْ خَيْرٍ} الأربعة أوجه التي في {من آيّةٍ}: من كونه مفعولًا به، أو حالًان أو تمييزًا، أو متعلّقًا بمحذوف.
و{مِنْ} تبعيضية، وقد تقدم تحقيقها، فليراجع ثَمَّة.
و{لأَنْفُسِكُمْ} متعلّق بت {تقدمُّوا}، أي: لحياة أنفسكمن وحذف، و{تجدوه} جواب الشرط، وهي متعدّية لواحد؛ لأنها بمعنى الإصابة، ومصدرها الوِجْدَان يكسر الواو كما تقدم، ولابد من حذف مضاف أي: تجدوا ثوابه، وقد جعل الزمخشري رحمه الله تعالى الهاء عائدة على {ما}، وهو يريد ذلك؛ لأنَّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد، إما يوجد ثوابه.
قوله: {عِنْدَ اللهِ} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق ب {تَجِدُوهُ}.
والثاني: أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي: تجدوا ثوابه مدّخرًا معدًّا عند الله تعالى، والظَّرفية هنا مجاز نحو: لك عند فلان يد. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (111):

قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر دعواهم في مس النار وأبطلها من وجوه كثيرة أحاطت بهم فيها الخطايا إحاطة اقتضت خلودهم فيها من جهة ضلالهم إلى آية النسخ مرقيًا الخطاب من سيئة إلى أسوأ منها ثم من جهة إضلالهم لغيرهم من آية النسخ عطف على تلك الدعوى الإخبار بدعواهم في دخول الجنة تصريحًا بما أفهمته الدعوى الأولى تلويحًا وقرن بذلك مثل ما ختم به ما قبلها من أن من فعل خيرًا وجد على وجه بين فيه أن ذلك الخير الإسلام والإحسان فقال تعالى: {وقالوا} أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى حسدًا منهم على المسبب الذي هو الجنة كما حسدوا على السبب وهو إنزال ما اقتضى الإيمان الموصل إلى الرضوان الذي به تستباح الجنان {لن يدخل الجنة} المعدة لأولياء الله {إلا من كان هودًا} هذا قول اليهود منهم {أو نصارى} وهذا قول النصارى نشرًا لما لفته الواو في {وقالوا}.
ولما كانوا أبعد الناس عن هذه الأماني التي تمنوها لأنفسهم لمنابذتهم لما عندهم من العلم والتي حسدوا فيها المؤمنين لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال مشيرًا إلى بعدهم عن ذلك على وجه الاستئناف معترضًا بين الدعوى وطلب الدليل عليها تعجيلًا لتوهيتها: {تلك} بأداة البعد {أمانيهم} تهكمًا بهم، أي أمثال هذه الشهوة من ودهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفارًا، وأن لا يدخل الجنة غيرهم- وأمثال ذلك من شهواتهم.
ولما كان كل مدع لغيب مفتقرًا في تصحيح دعواه إلى دليل وكان مثل هذا لا يقنع فيه إلا بقاطع أمر أعلم الخلق لأنه لا ينهض بأخراسهم في علمهم ولددهم غيره بمطالبتهم بذلك ناقضًا لدعواهم فقال: {قل هاتوا برهانكم} بلفظ البرهان.
قال الحرالي: وهو علم قاطع الدلالة غالب القوة بما تشعر به صيغة الفعلان ضم أولها وزيادتا آخرها، وهذا كما افتتح تلك بالنقض بقوله: {قل أتخذتم} وفي ذلك إعلام بأنه تعالى ما غيّب شيئًا إلا وأبدى عليه علمًا ليكون في العالم المشهود شفاف عن العالم الغائب- قاله الحرالي.
قالوا: وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ودليل على أن كل قول لا برهان عليه باطل. اهـ.

.اللغة:

{هودا} أي يهودا جمع هائد، والهائد: التائب الراجع مشتق من هاد إذا تاب {إنا هدنا إليك}، {أمانيهم} جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان ويشتهيه، {برهانكم} البرهان: الدليل والحجة الموصلان إلى اليقين، {أسلم} استسلم وخضع، {خرابها} الخراب: الهدم والتدمير وهو حسي كتخريب بيوت الله، ومعنوي كتعطيل إقامة الشعائر فيها، {خزي} هوان وذلة، {ثم} بفتح الثاء أي هناك ظرف للمكان، {وجه الله} الوجه: الجهة والمراد بوجه الله هنا: الجهة التي ارتضاها وأمر بالتوجه إليها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخليط اليهود وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين، واعلم أن اليهود لا تقول في النصارى: إنها تدخل الجنة، ولا النصارى في اليهود، فلابد من تفصيل في الكلام فكأنه قال: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، ولا يصح في الكلام سواه، مع علمنا بأن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، ونظيره: {قَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 135] والهود: جمع هائد، كعائذ وعوذ وبازل وبزل، فإن قيل: كيف قيل: كان هودًا، على توحيد الاسم، وجمع الخبر؟ قلنا: حمل الاسم على لفظ من والخبر على معناه كقراءة الحسن: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 163] وقرأ أبي بن كعب: {إِلاَّ مَن كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا} أما قوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} فالمراد أن ذلك متمنياتهم، ثم إنهم لشدة تمنيهم لذلك قدروه حقًا في نفسه، فإن قيل: لم قال: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة} أمنية واحدة؟ قلنا: أشير بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارًا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي: تلك الأماني الباطلة أمانيهم، وقوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} متصل بقوله: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} و{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} اعتراض، قال عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني» وقال علي رضي الله عنه: لا تتكل على المنى فإنها بضائع التولي. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا.
وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا.
وأجاز الفراء أن يكون {هُودًا} بمعنى يهوديًّا؛ حُذف منه الزائد، وأن يكون جمع هائد.
وقال الأخفش سعيد: {إِلاَّ مَن كَانَ} جعل {كان} واحدًا على لفظ {من}، ثم قال هودًا فجمع؛ لأن معنى {مَن} جَمْع.
ويجوز {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} وتقدّم الكلام في هذا، والحمد لله. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} عطف على {وَدَّ} [البقرة: 109] وما بينهما أعني {فاعفوا واصفحوا} [البقرة: 109] إما اعتراض بالفاء أو عطف على {وَدَّ} أيضًا، وعطف الإنشاء على الأخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز، والضمير لأهل الكتاب لا لكثير منهم كما يتبادر من العطف، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعًا، وكأن أصل الكلام قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فلف بين هذين المقولين، وجعلا مقولًا واحدًا اختصارًا وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد، وللعلم بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمه أو كما في (مغني اللبيب) للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار وهود جمع هائد كعوذ جمع عائذ، وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغير، وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف، وعلى القول بالجمعية يكون اسم كان مفردًا عائدًا على مَنْ باعتبار لفظها، وجمع الخبر باعتبار معناها، وهو كثير في الكلام خلافًا لمن منعه، ومنه قوله:
وأيقظ من كان منكم نيامًا

وقرأ أبيّ {يهوديًا أو نصرانيًا} فحمل الخبر والاسم معًا على اللفظ.
{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى كالأضحوكة والأعجوبة والجملة معترضة بين قولهم ذلك؛ وطلب الدليل على صحة دعواهم و{تِلْكَ} إشارة إلى {لَن يَدْخُلَ الجنة} الخ، وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها، وقيل: إشعارًا بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان؛ وقيل: لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن تلك محتوية على أمان أن لا يدخل الجنة إلا اليهود، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى وحرمان المسلمين منها، وأيضًا فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية وباعتبار الجميع أمان كثيرة، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفارًا، وأن لا يدخل الجنة غيرهم وعليه يكون أمانيهم تغليبًا لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة؛ والثالث دعوى باطلة، وجوز أيضًا أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب، فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الاستعارة تشبيهًا بالمتمني في الاستحالة، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لاسيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جدًا أن يشار إليها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى}.
عطف على {ود كثير} [البقرة: 109] وما بينهما من قوله: {فاعفوا واصفحوا} [البقرة: 109] الآية اعتراض كما تقدم.
والضمير لأهل الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده: {إلا من كان هودًا أو نصارى}.
ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، جمع القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء، ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل فريق وهو قوله: {هودًا أو نصارى} فكلمة أو من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام المحكي فأوْهنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله، والقرينة على أن أو ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه والمعلوم من حال أهل كل دين خلاف ذلك فإن كلًا من اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضًا قرينة على تعيين كل من خبري {كان} لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هودًا إلى مقول اليهود وإرجاع نصارى إلى مقول النصارى.
فأو هاهنا للتوزيع وهو ضرب من التقسيم الذي هو من فروع كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع القولين في فعل واحد وهو {قالوا} ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت أو تعبيرًا عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسمًا ثالثًا من أقسام الإيجاز وهو إيجاز حذف وقصر معًا.
وقد جعل القزويني في تلخيص المفتاح هاته الآية من قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذًا من كلام (الكشاف) لقول صاحب (الكشاف) فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين فقوله: فلف بين القولين أراد به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف نشرًا وتصويرًا للف في الآية من قوله: {قالوا}: مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك لقبوه اللف الإجمالي.
ثم وقع نشر هذا اللف بقوله: {إلا من كان هودًا أو نصارى} فعلم من حرف أو توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من الفريقين.
وقال التفتازاني في {شرح المفتاح} جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن يذكر نشره بكلمة أو.
والهود جمع هائد أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا} [البقرة: 62] الآية وجمع فاعل على فُعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضًا عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد، وحائل وحول، وبازل وبزل، وفاره وفُره، وإنما جاء هودًا جمعًا مع أنه خبر عن ضميره كان وهو مفرد لأن من مفردًا لفظًا ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى خبرًا وضميرًا على مراعاة المعنى.
والإشارة ب {تلك} إلى القولة الصادرة منهم {لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} كما هوالظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم فيها فيكون من التشبيه البليغ.
والأماني تقدمت في قوله: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} [البقرة: 78] وجملة {تلك أمانيهم} معترضة. اهـ.

.قال الفخر:

دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيًا، أو إثباتًا، فلابد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد قال الشاعر:
من ادعى شيئًا بلا شاهد ** لابد أن تبطل دعواه